“بيروت النبع المقدس”… ايلي صعب يحوّل الركام إلى بلّور
“بيروت النبع المقدس” Beirut the sacred source هذا العنوان ليس لقصيدة أو كتاب، هذا ليس ابتهالاً لأنشودة صلاة، وليس معزوفة لسمفونية سلام، وليس معرضاً فنياً لمدينة جدرانها وقعت وقمرها بقي بدراً.
هذا عنوان يحمل كل هذا وأكثر، إنّه الإسم الذي أطلقه إيلي صعب على مجموعته الأخيرة التي أطلت بالأمس.
لتقول إنّ التبختر فوق الحطام تحدٍ، وإن الزجاج المتطاير يمكن أن يتحوّل إلى بلّور، تزدان به الروح، وإنّ السّماء القنوطة بالنار والدخان ستعمّر الجمال، وإنّ العمران لا يكون إلا من الارادة والتصميم، وإنّ الشياطين مهما غلَت في غيَهما هناك قديسين يتجلَون في طهرهم. وإنّ الهدم الحقيقي لا يكون سوى في النفوس، والنفس عند إيلي صعب أبية صامدة ملهمة واسطورية.
كيف لا وهو المبدع المتحدي الذي خسر كل شيء في انفجار مرفأ بيروت، خسر قلعته التي تحوي اكثر من 200 موظف، وبات مكانه أشلاء وخسر بيته التراثي في الجميزة ولكن صعب لم يخسر نفسه ولا عزيمته بل بنى من الرماد حكاية صمود وغزل من الغبار خيوط التجلَّي وشك الخرز على شكل حجارة تعمّر مباني السحر.
إيلي صعب في مجموعته “بيروت النبع المقدس” ليست مجرد اثواب ترتديها أنثى التشوَف، بل هي امرأة تحمل البنيان في محياها وتسطّر الفن في أذيال ثوبها، امرأة مزركشة بالحلم الذي يصعب هدمه.
إنّها امرأة باحثة عن وطن الجمال. امرأة طالعة من الأسى تغسل وجهها وتتأنّق وتجوب الكون فاتحة لرسائل الابداع.
إيلي صعب صور مجموعته في الطبيعة وليس على مسرح الأضواء والصخب يذهب فيها الى الأرض الأم حيث البراعم تفرخ اغصانها، وحيث الجذور تدخل عمقا في ترابها وحيث الجلالة تزهو في أماكن طهرها.
الطبيعة هنا صلاة المتعبين والباحثين عن الهدوء، الطبيعة هنا أصالة لا زيف فيها ولا تصنّع. الضوء هنا يأتي ظلالاَ وارفة والموعد فيأه نقاء.
رجل خسر كل شيء، بيته، مملكته التي أسسها بشقاء العمر عمرَها بسنوات الأحلام . فجأة تحولت ركاماً. نهض كفكف وجعه وجلس على صخور محترفه ونظر نحو الأفق ولم يستسلم.
لملم أقمشته وحرائره وأعاد نظم قصائده. قصائد الوجع أبلغ لأنها تحوي كل المعاني، واثوابه كانت القصيدة الأم التي شقت نور حياتها بين العتمة والخراب ومشت صلبة، متماسكة، براقة نحو الفجر.
هذه الاثواب الرافلة على أجساد أنثى الطبيعة، المتهدلة فوق التراب تمخر عباب الضوء وتسطع.
هذه الأثواب هدية الى بيروت التي لا تستكين عند خراب بل تنفض نفسها وتعتلي منصات الضوء.
كم اميرة ونجمة وجميلة سترتدي روح بيروت المقدسة؟ كم عدسة ستصور الغلو الانثوي القادم من زفرات الأنين؟ وحده الفن يبقى سترد بيروت، وحدهم رجالات العزيمة ستخلدهم بيروت وحده النقش الأصيل سيكون صدى بيروت.
إيلي صعب ابن هذه الارض بكل أوجاعها وحروبها ومأساتها هو الذي تهجر طفلاَ من بيته الأوّل في الدامور، ثم عاش حروب الشوارع وخطوط التماس في عين الرمانة.
بينما كان سواه يقصقص أوصال الوطن كان هو يخيّط ثوب بيروت الأول نحو العالمية، وخلّد اسمها على عواصم الأناقة فرفع رايتها عالياً. وعندما غازله الطموح كثيراً بنى قلعته في وسط بيروت وجعل وجهها للبحر وفتح خزائن اللؤلؤ وزين بها اكثر نساء الارض رفعة. لم يثنه دمار ولا نار ولا خراب. وها هو الأن يعود الى البدايات حيث الخسارة وتمزق ثوب المدينة التي أحب، فيعود تطريزه من جديد يخرمه قطبة قطبة، ينسجه من قصب الروح، يغطسه بألوان الحياة زهري وأخضر وينقشه بلمعان الذهبي والفضي ويمشي به نحو السنابل وسهول الخضرة، حيث الأريج لا ينتهي.
عندما ترى هذا الفن الطالع من فم الألم تتيقن أنّ بيروت لا تعترف لقاتليها ولا تخافهم ولا تهتم بهم.
فهناك دوماً تعويذة سحريّة تتسلح بها فيصيبها المصاب فتنهض أجمل. تتكسّر فتقف مستقيمة القد، تنهار فتعود متألقة.
لا تطأطىء رأسها ولا تحني كتفيها فقط تلوي بعنقها دلالاً وحنواً.
هذا على الأقل ما باحت بها أثواب إيلي صعب ونساؤه وغاباته. إنها الرأفة في وجه القساوة. إنها الضوء في وجه العتمة، الجمال في وجه القباحة، السفر نحو الغد المشرق.
إنها مجموعة البوح بالمقدسات ولا أحد يقوى على القداسة. بل القداسة تقوينا وتنصرنا. وهكذا تعيش بيروت أبداً بقدسيتها وملهميها.
كمال طنوس